إلياس فرحات

1893 - 1976 / لبنان

حياة مشقّات - Poem by

طَوَى الدَّهْرُ مِنْ عُمْرِي ثَلاثِينَ حِجَّةً
طَوَيْتُ بِهَا الأَصْقَاعَ أَسْعَى وَأَدْأَبُ
أُغَرِّبُ خَلْفَ الرِّزْقِ وَهْوَ مُشَرِّقٌ
وَأُقْسِمُ لَوْ شَرَّقْتُ كَانَ يُغَرِّبُ
وَأَنْفُرُ مِنْ وَادٍ لِطَوْدٍ كَأَنَّنِي
وَقَدْ بَوَّقَ الدَاعُونَ لِلصَّيْدِ رَبْرَبُ
لِئَنْ غَرَّدَتْ لِلشَّاعِرِينَ بَلاَبِلٌ
فَإِنَّ غُرَابَ الشُّؤْمِ حَوْلِيَ يَنْعَبُ
وَإِنْ كَانَ عِلْمَاً ثَابِتَاً قَوْلُ بَعْضِهِمْ
لِكُلِّ امْرِئٍ نَجْمٌ فَنَجْمِي الْمُذَنَّبُ
وَمَرْكَبَةٍ لِلنَقْلِ رَاحَتْ يَجُرُّهَا
حِصَانَانِ : مُحْمَرٌّ هَزِيلٌ وَأَشْهَبُ
لَهَا خَيْمَةٌ تَدْعُو إِلَى الْهُزْءِ شَدَّهَا
غَرَابِيلُ أَدْعَى لِلْوَقَارِ وَأَنْسَبُ
جَلَسَتْ إِلَى حُوذِيِّهَا وَوَرَاءَنَا
صَنَادِيقُ فِيهَا مَا يَسُرُّ وَيُعْجِبُ
حَوَتْ سِلَعَاً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ يَبِيعُهَا
فَتَىً مَا أَسْتَحَلَّ البَيْعَ لَوْلا التَّغَرُّبُ
وَرَاحَتْ كَأَنَّ البَرَّ بَحْرٌ نِجَادُهُ
وَأَغْوَارهُ أَمْوَاجهُ ، وَهْيَ مَرْكَبُ
تَبِينُ وَتَخْفَى فِي الرُّبَى وَحِيَالهَا
فَيَحْسَبُهَا الرَاؤُونَ تَطْفُو وَتَرْسُبُ
وَتَدْخُلُ قَلْبَ الغَابِ وَالصُّبْحُ مُسْفِرٌ
فَتَحْسَبُ أَنَّ اللَّيْلَ لِلَّيْلِ مُعْقِبُ
تَمُرُّ عَلَى صُمِّ الصَّفَا عَجَلاتُهَا
فَنَسْمَعُ قَلْبَ الصَّخْرِ يَشْكُو وَيَصْخَبُ
وَتَرْقُصُ فَوْقَ النَّاتِئَاتِ مِنَ الحَصَى
فَنُوشِكُ مِنْ تِلْكَ الخَلاَعَةِ نُقْلَبُ
نَبِيتُ بِأَكْوَاخٍ خَلَتْ مِنْ أُنَاسِهَا
وَقَامَ عَلَيْهَا البُومُ يَبْكِي وَيَنْدُبُ
مُفَكَّكَة جُدْرَانُهَا وَسُقُوفُهَا
يُطِلُّ عَلَيْنَا النَّجْمُ مِنْهَا وَيَغْرُبُ
عَلَيْهَا نُقُوشٌ لَمْ تُخَطَّطْ بِرِيشَةٍ
تَظُنُّ صِبَاغَاً لَوْنَهَا وَهْوَ طُحْلُبُ
يُغَنِّي لَنَا فِيهَا الْهَوَاءُ كَأَنَّهُ
يُنَوِّمُنَا ، وَالْبَرْدُ لِلنَّوْمِ مُذْهِبُ
فَنُمْسِي وَفِي أَجْفَانِنَا الشَّوْقُ لِلْكَرَى
وَنُضْحِي وَجَمْرُ السُّهْدِ فِيهِنَّ يَلْهَبُ
وَمَأْكَلُنَا مِمَّا نَصِيدُ وَطَالَمَا
طَوَيْنَا لأَنَّ الصَّيْدَ عَنَّا مُغَيَّبُ
وَنَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُ الخَيْلُ تَارَةً
وَطَوْرَاً تَعَافُ الخَيْلُ مَا نَحْنُ نَشْرَبُ
حَيَاةُ مَشَقَّاتٍ وَلَكِنْ لِبُعْدِهَا
عَنِ الذُّلِّ تَصْفُو لِلأَبِيِّ وَتَعْذُبُ
وَقَدْ نَلْتَقِي بَعْضَ الجَمِيلاَتِ صُدْفَةً
فَيُطْرِبْنَنَا وَالْمُبْدُع الغِيد مُطْرِبُ
وَكُلُّ مَكَانٍ فِيهِ لِلْحُسْنِ مَرْتَعٌ
وَلِلطَّرْفِ مَلْهَىً فِيهِ لِلْحُبِّ مَلْعَبُ
وَمَا تَلْتَقِي عَيْنَا فَتَاةِ حَيِيَّةٍ
وَعَيْنَا فَتَىً إلاَّ لِكُوبِيدَ مَأْرَبُ
وَهَلْ أَنَا إِلاَّ شَاعِرٌ لاَنَ قَلْبُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْلَةِ الحُبِّ مَهْرَبُ
نَفَتْنِي مِنَ الْمُدْنِ العَوَاصِمِ عِزَّتِي
فَرُحْتُ بِأَطْرَافِ الوِلايَاتِ أَضْرِبُ
أُعَاشِرُ مَنْ لَوْ عَاشَرَ القِرْدُ بَعْضَهَمْ
لَمَا رَدَّ عَنْ دَرْوِين قَبْرٌ مُقَبَّبُ
وَأُنْصِتُ مُضْطَّرَاً إِلَى كُلِّ أَبْلَهٍ
كَأَنِّي بِأَسْرَارِ البَلاهَةِ مُعْجَبُ
وَأَكْرَهُ أَشْيَاءً رَفِيقِي يُحِبُّهَا
وَأَرْغَبُ فِي أَشْيَاءَ عَنْهُنَّ يَرْغَبُ
وَأَرْهَبُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَرُبَّمَا
تَعَمَّدْتُ إِظْهَارَ السِّلاَحِ لِيَرْهَبُوا
فَعِزُّ الفَتَى الطَّاوِي الفَيَافِي مُسَدَّسٌ
كَمَا أَنَّ عِزَّ اللَيْثِ نَابٌ وَمِخْلَبُ
وَمَا صِينَ حَقٌّ لاَ سِلاَحَ لِرَبِّهِ
وَأَضْعَفُ أَنْوَاعِ السِّلاَحِ التَّأَدُّبُ
وَلْولاَ نُيُوبُ الأُسْدِ كَانَتْ ذَلِيلَةً
تُسَاطُ وَتَعْنُو لِلشَّكِيمِ وَتُرْكَبُ
وَكَمْ ظَالِمٍ يَسْتَعْبِدُ النَّاسَ عُنْوَةً
وَحُجَّتُهُ الكُبْرَى الحُسَامُ الْمُشَطّبُ
أَقُولُ لِنَفْسِي كُلَّمَا عَضَّهَا الأَسَى
فَآلَمَهَا :صَبْرَاً فَفِي الصَّبْرِ مَكْسَبُ
لِئَنْ كَانَ صَعْبَاً حَمْلُكِ الْهَمَّ وَالأَذَى
فَحَمْلُكِ مَنَّ النَّاسِ لاَ شَكَّ أَصْعَبُ
فَلَوْلاَ إِبَاءٌ مَازَجَ الطَّبْعَ لَمْ أَكُنْ
لِمِثْلِي مَجِيءٌ فِي البَرَارِي وَمَذْهَبُ
وَلَوْلاَ رَجَائِي أَنْ تَظَلَّي بَعِيدَةً
عَنِ الضَّيْمِ لَمْ يُوطَأْ بِرِجْلِيَ سَبْسَبُ
فَلاَ تَعْذِلِي صَحْبَاً دَرُوا بِي وَمَا عَنَوا
بِأَمْرِي فَهُمْ مِنِّي إِلَى الفَقْرِ أَقْرَبُ
وَلاَ تَأْمَلِي مِنْ غَيْرِ صَحْبِي مَعُونَةً
فَمَا تُخْضَبُ الكَفَّانِ وَالقَلْبُ مُجْدِبُ
وَلاَ تَرْتَجِي الإِخْلاَصَ مِنْ كُلِّ بَاسِمٍ
فَفِي البَاسِمِينَ الْمُبْغِضُ الْمُتَحَبِّبُ
وَلَوْ كَانَ كُلُّ المُظْهِرِينَ لِيَ الوَفَا
وَفِيِّينَ لَمْ يُعْجِزْكِ يَا نَفْسُ مَطْلَبُ
عَتِبْتُ عَلَى نَاسٍ أَضَاعُوا مَوَدَّتِي
وَكُلُّ كَرِيمٍ خَانَهُ الصَّحْبُ يَعْتَبُ
فَقَدْ زَعَمُوا أَنِّي هَجَوْتُ حَبِيبَهُمْ
وَأَنِّي سَأَهْجُو غَيْرَهُ حِينَ أَخْطُبُ
وَلَسْتُ بِهَجَّاءٍ .. وَلَكِنَّهُ الْهَوَى
إِذَا قَادَ نَفْسَ الْمَرْءِ فَالنُّورُ غَيْهَبُ
أَنَا مَنْ يَرَى أَنَّ الرِّيَاءَ مَعَرَّةٌ
وَأَنَّ خَبِيثَ القَوْلِ فِي الصِّدْقِ طَيِّبُ
وَمَا أَنَا إِلاَّ كَالزَّمَانِ وَأَهْلِهِ
أَعَافُ وَأَسْتَحْلِي وَأَرْضَى وَأَغْضَبُ
فَأَيُّ هِجَاءٍ فِي مَقَالِي لِعَقْرَبٍ
لَهُ وَلَعٌ بِالشَّرِّ إِنَّكَ عَقْرَبُ
فَيَا نَفْسُ إِلاَّ أَنْتِ مَا لَكِ وَاعْلَمِي
بِأَنَّ كُلَّ بَرْقٍ غَيْر بَرْقِكِ خُلَّبُ
تَعِبْتِ إِذَا إسْتَنْظَرْتِ خَيْرَاً مِنَ الوَرَى
وَمُسْتَقْطِرُ السَّلْوَى مِنَ الصَّابِ يَتْعَبُ
194 Total read